فصل: تفسير الآيات (101- 102):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (90- 93):

{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}
هذه المقالة قالها الملأ لتبّاعهم وسائر الناس الذي يقلدونهم، و{الرجفة} الزلزلة الشديدة التي ينال معها الإنسان اهتزاز وارتعاد واضطراب.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن فرقة من قوم شعيب أهلكت ب {الرجفة} وفرقة بالظلة ويحتمل أن الظلة و{الرجفة} كانتا في حين واحد، وروي أن الله تعالى بعث {شعيباً} إلى أهل مدين وإلى أصحاب ألأيكة، وقيل هما طائفتان وقيل واحدة وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والوزن فدعاهم فكذبوه فجرت بينهم هذه المقاولة المتقدمة، فلما عتوا وطالت بهم المدة فتح الله عليهم باباً من أبواب جهنم فأهلكهم الحر منه فلم ينفعهم ظل ولا ماء، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح وطيبها فتنادوا، عليكم الظلة، فلما اجتمعوا تحت الظلة وهي تلك السحابة انطبقت عليهم فأهلكتهم، قال الطبري: فبلغني أن رجلاً من أهل مدين يقال له عمرو بن جلهاء قال لما رأها: [البسيط]
يا قوم إن شعيباً مرسل فذروا ** عنكم سميراً وعمران بن شداد

إني أرى غيمة يا قوم قد طلعت ** تدعو بصوت على ضمّانه الواد

وإنه لن تروا فيها ضحاء غد ** إلا الرقيم يمشّي بين انجاد

وسمير وعمران كاهناهم والرقيم كلبهم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر شعيباً قال: «ذلك خطيب الأنبياء» لقوله لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} [هود: 88].
قال القاضي أبو محمد: يريد لحسن مراجعته وجميل تلطفه. وحكى الطبري عن أبي عبد الله البجلي أنه قال: أبو جاد وهو زوحطي وكلمن وصعفض وقرست أسماء ملوك مدين، وكان الملك يوم الظلة كلمن، فقالت أخته ترثيه: [مجزوء الرمل]
كلمن قد هد ركني ** هلكه وسط المحله

سيد القوم اتساه ** حتف نار وسط ظله

جعلت نار عليهم ** دارهم كالمضمحله

قال القاضي أبو محمد: وهذه حكاية مظنون بها والله علم، وقد تقدم معنى {جاثمين}.
وقوله: {كأن لم يغنوا فيها} لفظ فيه للإخبار عن قوة هلاكهم ونزول النقمة بهم والتنبيه على العبرة بهم، ونحو هذا قول الشاعر:
***كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** و{يغنوا} معناه يقيموا ويسكنوا.
قال القاضي أبو محمد: وغنيت في المكان إنما يقال في الإقامة التي هي مقترنة بتنعم وعيش مرضٍ، هذا الذي استقريت من الأشعار التي ذكرت العرب فيها هذه اللفظة فمن ذلك قول الشاعر: [الوافر]
وقد نغنى بها ونرى عصوراً ** بها يقتدننا الخرد الخذالا

ومنه قول الآخر: [الرمل]
ولقد يغني بها جيرانك المس ** تمسكون منكم بعهد ووصال

أنشده الطبري، ومنه قول الآخر: [الطويل]
ألا حيّ من أجلِ الحبيبِ المغانيا

ومنه قول مهلهل: [الخفيف]
غنيت دارنا تهامة في الدهر ** وفيها بنو معد حَلُّوا

ويشبه أن تكون اللفظة من الاستغناء، وأما قوله: كأن لم تغن بالأمس ففيه هذا المعنى لأن المراد كأن لم تكن ناعمة نضرة مستقلة، ولا توجد فيما علمت إلا مقترنه بهذا المعنى وأما قول الشاعر: [الطويل]
غنينا زماناً بالتصعلك والغنا ** وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهرُ

فمعناه استغنينا بذلك ورضيناه مع أن هذه اللفظة ليست مقترنه بمكان.
وقوله: {يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي} إلى آخر الآية كلام يقتضي أن {شعيباً} عليه السلام وجد في نفسه لما رأى هلاك قومه حزناً وإشفاقاً إذ كان أمله فيهم غير ذلك، فلما وجد ذلك طلب أن يثير في نفسه سبب التسلي عنهم والقسوة عليهم فجعل يعدد معاصيهم وإعراضهم الذي استوجبوا به أن لا يتأسف عليهم، فذكر أنه بلغ الرسالة ونصح، والمعنى فأعرضوا وكذبوا، ثم قال لنفسه لما نظرت في هذا وفكرت فيه {فكيف آسى} على هؤلاء الكفرة، ويحتمل أن يقول هذه المقالة على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قليب بدر، وقال مكي: وسار شعيب بمن معه حتى سكن مكة إلى أن ماتوا بها، و{آسى}: أحزن، وقرأ بن وثاب وطلحة بن مصرف والأعمش: {إيسى} بكسر الهمزة وهي لغة كما يقال أخال وأيمن، قال عبد الله ابن عمر لا أخاله، وقال ابنه عبد الله بن عبد الله بن عمر في كتاب الحج لا أيمن وجميع ذلك في البخاري، وهذه اللغة تطرد في العلامات الثلاث، همزة التكلم ونون الجماعة وتاء المخاطبة، ولا يجوز ذلك في ياء الغائب كذا قال سيبويه، وأما قولهم من جل ييجل فلعله من غير هذا الباب.

.تفسير الآيات (94- 96):

{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}
هذه الآية خبر من الله عز وجل أنه ما بعث نبياً في مدينة وهي القرية إلا أخذ أهلها المكذبين له {بالباساء} وهي المصائب في الأموال والهموم وعوارض الزمن، {الضراء} وهي المصاب في البدن كالأمراض ونحوها، هذا قول ابن مسعود وكثير من أهل اللغة، وحكي عن السدي ما يقتضي أن اللفظتين ينقادون إلى الإيمان، وهكذا قولهم الحمى أضرعتني لك.
ثم قال تعالى أنه بعد إنفاذ الحكم في الأولين بدل للخلق مكان السيئة وهي {الباساء} و{الضراء} الحسنة وهي السراء والنعمة، وهذا بحسب ما عند الناس، وإلا فقد يجيء الأمر كما قال الشاعر: [البسيط]
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ** ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما يصح مع النظر إلى الدار الآخرة والجزاء فيها، والنعمة المطلقة هي التي لا عقوبة فيها: والبلوى المطلقة هي التي لا ثواب عليها، و{حتى عفواً} معناه: حتى كثروا يقال عفا النبات والريش يعفو إذا كثر نباته، ومن هذا المعنى قول الشاعر: [الوافر]
ولكنها يعضُّ السيف منها ** بأسوق عافيات الشحم كوم

وعليه قوله صلى الله عليه وسلم «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى» وعفا أيضاً في اللغة بمعنى درس وبلى فقال بعض الناس هي من الألفاظ التي تسعتمل للضدين، أما قول زهير:
***على آثار من ذهب العفاء ** فيحتمل ثلاثة معانٍ الدعاء بالدرس، والإخبار به، والدعاء بنمو والنبات، كما يقال جادته الديم وسقته العهاد ولما بدل الله حالهم بالخير لطفاً بهم فنموا رأى الخلق بعد ذلك للكفر الذي هم فيه أن إصابة {الضراء والسراء} إنما هي بالاتفاق، وليست بقصد كما يخبر النبي، واعتقدوا أن ما أصابهم من ذلك إنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم فجعلوه مثالاً، أي قد أصاب هذا آباءنا فلا ينبغي لنا أن ننكره، فأخبر الله تعالى أنه أخذ هذه الطوائف التي هذا معتقدها، وقوله: {بغتة} أي فجأة وأخذة أسف وبطشاً للشقاء السابق لهم في قديم علمه، و{السراء} السرور والحبرة، {وهم لا يشعرون} معناه وهم مكذبون بالعذاب لا يتحسسون لشيء منه ولا يستشعرونه باستذلال وغيره.
وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا} الآية المعنى في هذه الآية أنهم لو كانوا ممن سبق في علم الله أن يكتسبوا الإيمان والطاعات ويتصفوا بالتقى لتبع ذلك من فضل الله ورحمته وإنعامه ما ذكر من بركات المطر والنبات ولكنهم لما كانوا ممن سبق كفرهم وتكذيبهم تبع ذلك أخذ الله لهم بسوء ما اجترموه، وكل مقدور، والثواب والعقاب متعلق بكسب البشر، وبسببه استندت الأفعال إليهم في قوله: {آمنوا واتقوا} وفي {كذبوا} وقرأ الستة من القراء السبعة {لفتحَنا} بخفيف التاء وهي قراءة الناس، وقرأ ابن عامر وحده وعيسى الثقفي وأبو عبد الرحمن: {لفتّحنا} بتشديد التاء، وفتح البركات إنزالها على الناس ومنه قوله تعالى: {ما يفتح الله للناس من رحمة} [فاطر: 1] ومنه قالت الصوفية: الفتوح والبركات النمو والزيادات، ومن السماء لجهة المطر والريح والشمس، ومن الأرض لجهة الإنبات والحفظ لما ينبت، هذا هو الذي يدركه نظر البشر ولله خدام غير ذلك لا يحصى عددهم، وما في علم الله أكثر.

.تفسير الآيات (97- 100):

{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)}
هذه الآية تتضمن وعيداً للكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم الخالية قال: ومن يؤمن هؤلاء أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك، وهذا استفهام على جهة التوقيف، والبأس: العذاب، و{بياناً} نصب على الظرف أي وقت مبيتهم بالليل، ويحتمل أن يكون هذا في موضع الحال.
وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر {أوْ أمن} بسكون الواو وإظهار الهمزتين، وقرأ ورش عن نافع {أوَامن} بفتح الواو وإلقاء حركة الهمزة الثانية عليها، وهذه القراءة في معنى الأولى ولكن سهلت، وقرأ عصام وأبو عمرو وحمزة والكسائي، {أوَ أمن} بفتح الواو وإظهار الهمزتين ومعنى هذه القراءة: أنه دخل ألف الاستفهام على حرف العطف، ومعنى القراءة الأولى: أنه عطف با والتي هي لأحد الشيئين، المعنى: {أفأمنوا} هذه أو هذا كما تقول: أجاء زيد أو عمرو وليست هذه أو التي هي للإضراب عن الأول كما تقول: أنا أقوم أو أجلس وأنت تقصد الإضراب عن القيام والإثبات للجلوس وتقريره، وقولنا التي هي لأحد الشيئين يعم الإباحة والتخيير كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين أو قولك: جالس الحسن أو جالس ابن سيرين، وقوله: {يلعبون} يريد في غاية الغفلة والإعراض.
و{مكر الله} هي إضافة مخلوق إلى الخالق كما تقول: ناقة الله وبيت الله، والمراد فعل يعاقب به مكرة الكفار، وأضيف إلى الله لما كان عقوبة الذنب فإن العرب تسمي العقوبة على أي وجه كانت باسم الذنب الذي وقعت عليه العقوبة، وهذا نص في قوله: {ومكروا ومكر الله}، وهذا الموضع أيضاً كان كفرهم بعد الرسالة وظهور دعوة الله مكر وخديعة واستخفاف، وقيل عومل في مثل هذا وغيره اللفظ دون المعنى في مثل قوله: {الله يستهزئ بهم} [البقرة: 15] و«أن الله لا يمل حتى تملوا» وغير ذلك.
وقوله: {أو لم يهد للذين يرثون الأرض} الآية، هذه ألف تقرير دخلت على واو العطف، ويهدي معناه يبين والهدى الصباح وأنشدوا على ذلك:
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة ** يسبحن في الآل غلفاً أو يصلينا

ويحتمل أن يكون المبين الله ويحتمل أن يكون المبين قوله: {أن لو نشاء} أي علمهم بذلك وقال ابن عباس ومجاهد وابن زيد: ويهدي معناه يتبين، وهذه أيضاً آية وعيد، أي ألم يظهر لوارث الأرض بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم وما حل بهم أنا نقدر لو شئنا أن نصيبهم إصابة إهلاك بسبب معاصيهم كما فعل بمن تقدم وكنا نطبع: أي نختم، ونختم عليها بالشقاوة، وفي هذه العبارة ذكر القوم الذين قصد ذكرهم وتعديد النعمة عليهم فيما ورثوا والوعظ بحال من سلف من المهلكين، ونطبع عطف على المعاصي إذ المراد به الاستقبال، ويحتمل أن يكون ونطبع منقطعاً إخباراً عن وقوع الطبع لا أنه متوعد به ويبقى التوعد بالإهلاك الذي هو بعذاب كالصيحة والغرق ونحوه، وقرأ أبو عمرو: {ونطبع على} بإدغام العين في العين وإشمام الضم، ذكره أبو حاتم.

.تفسير الآيات (101- 102):

{تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}
{تلك} ابتداء، و{القرى} قال قوم هو نعت والخبر {نقصّ} ويؤيد هذا أن القصد إنما الإخبار بالقصص.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر عندي أن {القرى} هي خبر الابتداء، وفي ذلك معنى التعظيم لها ولمهلكها، وهذا كما قيل في {ذلك الكتاب} [البقرة: 2] أنه ابتداء وخبر، وكما قال صلى الله عليه وسلم «أولئك الملأ»، وكقول أبي الصلت تلك المكارم وهذا كثير، وكأن في اللفظ معنى التحسر على القرى المذكورة، والمعنى: نقص عليك من أنباء الماضين لتتبين العبر وتعلم المثلات التي أوقعها الله بالماضين ثم ابتدأ الخبر عن جميعهم بقوله: {ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل}.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام يحتمل أربعة وجوه من التأويل، أحدها أن يريد أن الرسول جاء لكل فريق منهم فكذبوه لأول أمره ثم استبانت حجته وظهرت الآيات الدالة على صدقه مع استمرار دعوته فلجّوا هم في كفرهم ولم يؤمنوا بما تبين به تكذيبهم من قبل، وكأنه وصفهم على هذا التأويل باللجاج في الكفر والصرامة عليه ويؤيد هذا قوله: {كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين} ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى فما كانوا ليؤمنوا أي ما كانوا ليوفقهم الله إلى الإيمان بسبب أنهم كذبوا قبل فكان تكذيبهم سبباً لأن يمنعوا الإيمان بعد، والثاني من الوجوه أن يريد فما كان آخرهم في الزمن والعصر ليهتدي ويؤمن بما كذب به أولهم في الزمن والعصر، بل كفر كلهم ومشى بعضهم عن سنن بعض في الكفر.
قال القاضي أبو محمد: أشار إلى هذا القول النقاش، فكأن الضمير في قوله: {كانوا} يختص بالآخرين، والضمير في قوله: {كذبوا} يختص بالقدماء منهم، والثالث من الوجوه يحتمل أني ريد فما كان هؤلاء المذكورون بأجمعهم وقرنه بقوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] وهذه أيضاً صفة بليغة في اللجاج والثبوت على الكفر، بل هي غاية في ذلك، والرابع من الوجوه أنه يحتمل أن يريد وصفهم بأنهم لم يكونوا ليؤمنوا بما قد سبق في علم الله تعالى أنهم مكذبون به، فجعل سابق القدر عليهم بمثابة تكذيبهم بأنفسهم لاسيما وقد خرج تكذيبهم إلى الوجود في وقت مجيء الرسل، وذكر هذا التأويل المفسرون وقرنوه بأن الله عز وجل حتم عليهم التكذيب وقت أخذ الميثاق، وهو قول أبي بن كعب.
وقوله تعالى: {وما وجدنا لأكثرهم من عهد} الآية، أخبر تعالى أنه لم يجد لأكثرهم ثبوتاً على العهد الذي أخذه على ذرية آدم وقت استخراجهم من ظهره، قاله أبو العالية عن أبي بن كعب، ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن أنهم لم يصرفوا عقولهم في الآيات المنصوبة ولا شكروا نعم الله ولا قادتهم معجزات الأنبياء، لأن هذه الأمور عهد في رقاب العقلاء كالعهود ينبغي أن يوفى بها، وأيضاً فمن لدن آدم تقرر العهد الذي هو بمعنى الوصية وبه فسر الحسن هذه الآية فيجيء المعنى: وما وجدنا لأكثرهم التزام عهد وقبول وصاة، ذكره المهدوي، و{من} في هذه الآية زائدة، إلا أنها تعطي استغراق جنس العهد ولا تجيء هذه إلا بعد النفي، و{إن} هي المخففة من الثقيلة عند سيبويه، واللام في قوله: {لفاسقين} للفرق بين {إن} المخففة وغيرها، و{إن} عند الفراء هي بمعنى ما واللام بمعنى إلا والتقدير عنده وما وجدنا أكثرهم إلا فاسقين.